كانت مصر تمثل درة تاج الدولة العثمانية، وخير ولاياتها وأكثرها أهمية من حيث الموقع الاستراتيجي، لذلك كانت هدفًا للعدوان الصليبي قديمًا وحديثًا، وكانت الدول الأوروبية تهدف لعزل مصر واقتطاعها من جسد الدولة العثمانية، لما تمثله مصر من ثقل وقوة للمسلمين.
انتهزت إنجلترا دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء، وأعلنت الأحكام العرفية في مصر وفرضت الحماية عليها وخلعت الخديوي عباس حلمي، وبذا اقتطعت مصر من جسد الخلافة، وكانت السياسة الإنجليزية أشد خبثًا من مثيلاتها في الدول "الاستعمارية"، حيث كانت تعمد لتبني بعض أبناء البلاد المحتلة من قبلها وتعليمهم وتثقيفهم والإنفاق عليهم وتقديمهم للرأي العام الداخلي على أنهم قادة البلاد، وهم في الواقع مجرد صور ومنفذين للسياسات الإنجليزية والخطط الخارجية، وكانت العين الإنجليزية الفاحصة تقطع أرض مصر طولاً وعرضًا ليلاً ونهارًا، تنتقي من يصلح لهذه المهمة، ومن كل الطوائف والفئات، من المثقفين والأدباء والشعراء ورجال الأعمال والوجهاء والعسكريين وأصحاب الثروات والمناصب وحتى الفنانين، فلم تكن إنجلترا تستثني شريحة من المجتمع، حتى كونت صفًّا طويلاً وربما عريضًا يتبع الإنجليز حذو القذة بالقذة، وكان «حزب الأمة» هو المحتوى الجامع لأتباع السياسة الإنجليزية في مصر، وكان معظم رجال هذا الحزب من تلاميذ الشيخ محمد عبده! ومن أهمهم وأشهرهم سعد زغلول ومحمد محمود وفتحي زغلول ونجيب الهلباوي وغيرهم، وهذه المجموعة هي التي وقع عليها الاختيار لتتسلم الراية بعد خروج الإنجليز من مصر، وبدأ التحضير منذ أن تم إسناد وزارة المعارف لسعد زغلول أيام اللورد كرومر.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى توقعت إنجلترا بدء مستعمراتها في طلب الاستقلال، فأخذت تظهر اللين وأبدت استعدادها للموافقة وأوحت إلى سعد زغلول ورفاقه بالتحرك، فبدأ في عقد اجتماعات ولقاءات أسفرت عن طلب الاستقلال وتم تشكيل وفد للسفر إلى الخارج لعرض القضية على العالم، وتشكل هذا الوفد من سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي، وطلبوا مقابلة المندوب السامي البريطاني «وينجت» وطلبوا منه السماح لهم بالسفر إلى إنجلترا لعرض طلباتهم باستقلال مصر، فرفض المندوب ذلك الطلب، فاستعد سعد زغلول ورفاقه إلى السفر إلى جهة أخرى وهي باريس وذلك لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح، فاعتبرت إنجلترا هذا تمردًا منهم، فألقت القبض عليهم، ومعهم آخرون، منهم محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي، ثم ما لبثت أن أفرجت عنهم، فلما لم يحقق هذا القبض الهدف منه ألا وهو أن يتوج هؤلاء زعماء جدد لمصرـ وكان مصطفى كامل وخليفته محمد فريد مازالا يمثلان الزعامة الوطنية للمصريين ـ قامت إنجلترا بالقبض عليهم مرة أخرى ونفيهم إلى مالطة.
عندما وصلت أخبار النفي للشعب المصري ثار ثورة عارمة مشحونة بغيظ القلوب المكبوتة منذ سنين، والإحساس بالعدوان والطغيان الصليبي الذي أرهق المصريين لسنوات طويلة، وبدأت الثورة يوم 7 جمادى الآخرة 1337هـ ـ 9 مارس 1919م بتظاهر طلبة كلية الحقوق والهندسة والزراعة والطب والتجارة، وتصدى الجنود الإنجليز للتظاهرات وأوقعوا عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى.
امتدت الثورة بعد ذلك لتشمل جميع شرائح وقطاعات الشعب المصري من محامين وعمال وموظفين وصحافيين ونساء، وتحولت من ثورة سلمية إلى ثورة عنيفة وقعت خلالها أعمال تخريب وسلب ونهب، ونجحت الثورة في تحقيق أهدافها الخفية، وأصبح سعد زغلول هو زعيم الأمة المتحدث باسمها ليبدأ فصلاً جديدًا في مصر تختفي فيه الشعارات والهوية الإسلامية وتحل محلها الوطنية والقومية.