آخر الأخبار

التواصل

دنيا البنات

31 يناير 2012

آراؤهم المشكلة أم وجودهم؟

فهمي هويدي
قرأنا أن أعضاء المجلس التأسيسى التونسى «أصيبوا بالذهول» لأن أحد ممثلى حزب النهضة الإسلامى الذى ترأسه الحكومة طالب بتطبيق الشريعة من خلال تنزيل حد «الحرابة» على الذين يشيعون الفوضى ويشلون حركة الإنتاج فى البلاد بالإضرابات والاعتصامات. إذ اعتبرهم صاحبنا «مفسدين فى الأرض». الخبر نشر يوم الجمعة الماضى على الصفحات الأولى، بعدما عممته وكالات الأنباء على الكرة الأرضية، إثر إلقاء النائب المنسوب إلى النهضة «قنبلته» فى جلسة الخميس (26/1).

ما قاله الرجل كان مجرد رأى لم يأخذه المجلس على محمل الجد ولم يناقشه، وعلق عليه الناطق الرسمى باسم الحكومة مقللا من شأنه. قال إن الحكومة لا تتعامل مع المظاهرات والاعتصامات باعتبارها من قبيل الإفساد فى الأرض. كما أن برنامج حزب النهضة خلا من أية إشارة إلى مضمون وحكم الآية 33 من سورة «المائدة» التى تدين «الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون فى الأرض فسادا». ثم حسم الأمر بقوله إن الحكومة لن تلجأ إلى العنف لفض الاعتصامات أو وقف المظاهرات.

لم تكن هذه المرة الأولى التى يثار فيها اللغط الإعلامى بسبب استخدام مصطلحات الخطاب الإسلامى ومفرداته. إذ قبل أسابيع قليلة قامت الدنيا ولم تقعد فى تونس أيضا لأن رئيس الوزراء فى بداية توليه السلطة تحدث عن تجربة الخلافة الإسلامية فى عهد عمر بن عبدالعزيز باعتبارها نموذجا يحتذى به فى إقامة العدل. إذ ثارت ثورة كثيرين ممن أغضبتهم الإشارة إلى الخلافة الإسلامية، الذى لم يدع الرجل إلى إقامتها إنما تمنى أن يتمثل القيمة التى جسدتها فى ذاك الزمان، حتى دخل عمر بن عبدالعزيز التاريخ بحسبانه الخليفة العادل أو خامس الخلفاء الراشدين. وقد شهدت مصر فرقعة من هذا القبيل حين تحدث أحد قادة الإخوان المسلمين عن الخلافة باعتبارها تجربة تاريخية يعتز بها المسلمون فى صورتها الراشدة، ويتمنون أن يتمثلوا قيم الحق والعدل التى سادت فى زمانها، فتحدثت إحدى الصحف عن أنه دعا إلى إقامة الخلافة، ثم قالت صحيفة أخرى على صفحتها الأولى إن الإخوان أقاموها فعلا!. وانتفض أحد قادة اليسار فراح يدبج سلسلة من المقالات فى ذم الخلافة وتعداد مثالبها.

بعدما أسفرت أجواء «الربيع العربى» عن بروز الهوية الإسلامية فى أكثر من قطر عربى جرت فيه انتخابات حرة، فإننا نتوقع تواتر هذه الإشارات، ومن ثم تكرار حالات الإصابة بـ«الذهول» فى بعض الدوائر، الأمر الذى يستدعى عدة ملاحظات توضيحية واستدراكية، فى مقدمتها ما يلى:

● إن هذا الخطاب ليس وافدا، ولكنه كان محجوبا ومقموعا فى ظل الأنظمة المستبدة المخيمة، بدليل أنه لم يظهر على السطح إلا بعد أن استردت الشعوب حريتها. واستردت معها هويتها الحقيقة، ومن ثم استعادت مرجعيتها الثقافية. لذلك فالمفاجئ ليس هذه اللغة، لكنه رد فعل الآخرين الذين «اصيبوا بالذهول» لدى سماعها.

● إن الدهشة تنتاب المرء لأن هذه الصدمة حدثت والأصداء اشمأزت لمجرد سماع المصطلحات، التى ألقيت فى الفضاء دون أن ترتب شيئا ملموسا على الأرض. بل إنها لم تناقش من الأساس. بما يعنى أننا بصدد حالة لغوية ولسنا بصدد إجراء سياسى.

● إننا ينبغى ألا نستغرب هذه اللغة من المنتسبين إلى التيار الإسلامى، وأغلبهم حديثو عهد بالعمل السياسى ولم يتخلصوا بعد من لغة الخطاب الدعوى. ناهيك عن أنهم يفقدون شرعيتهم إذا خاطبونا بلغة العلمانيين أو اليساريين أو القوميين. تماما كما أن الآخرين يفقدون شرعيتهم إذا تحدثوا بلغة ومصطلحات الإسلاميين.

● إذا كانت لغة الإسلاميين غريبة على أسماع الليبراليين فإن احتمالها واحترامها يظل واجبا، حتى من وجهة النظر الليبرالية والديمقراطية. ومن المفارقات أن الليبراليين مابرحوا يعظوننا طول الوقت، داعين إلى ضرورة احترام الآخر، ولكن حين يصبح ذلك الآخر منسوبا إلى التيار الإسلامى فإنه يلاحق بالاتهامات ويصبح اقصاؤه وإسكاته مطلبا ملحا ودفاعا عن الليبرالية!

● إن ماسمعناه حتى الآن لا يتجاوز إعلان الآراء الصادرة عن آحاد الأفراد، الذى يراد به تسجيل المواقف والفضفضة بأكثر مما يراد به تغيير المسار فى هذا الاتجاه أو ذاك. فلسنا بصدد مخططات لجماعات أو مشروعات قوانين أو غير ذلك من الخطوات العملية التى تستهدف الانتقال إلى حيز التنفيذ.

● إن الآراء حتى إذا كانت غريبة أو شاذة ينبغى أن تعطى حجمها، لأننا لا نستطيع أن نطالب كل الناشطين بأن يعبروا عن أنفسهم بدرجة واحدة من الرصانة والمسئولية. وإذا ما صادفنا أمثال تلك الآراء فينبغى احتمالها طالما أنها فى حدود القانون إلا فى حالتين: أن تتبناها أعداد كبيرة من الناس يمكن أن تشكل عنصرا ضاغطا على المجتمع، أو أن ينجح أصحابها فى تحويل أفكارهم تلك إلى قرار سياسى.

فى بعض الأحيان يخيل إلىّ أن الاعتراض لا ينصب على الإسلاميين أو مواقفهم، ولكنه فى حقيقة الأمر ينصب على مبدأ وجودهم على وجه البسيطة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق