آخر الأخبار

التواصل

دنيا البنات

08 يونيو 2013

الساكتون مجرمون أيضا

يظل التعذيب نقطة سوداء فى سجل أى نظام، فما بالك إذا كان ذلك النظام قد جاء عقب ثورة أسقطت رئيسا مستبدا وأطاحت بدولته البوليسية التى مارست القمع بحق المجتمع طوال ثلاثين عاما على الأقل، سادت خلالها أنظمة الطوارئ التى جعلت الشرطة فوق القانون وفوق الشعب، وحين يرى الباحثون ان التعذيب كان قاعدة من قبل الشرطة قبل الثورة لكنه أصبح استثناء بعدها فإن ذلك لا يلغى الجريمة ولكنه يضيق من نطاقها، ويظل الاختلاف بين الوضعين محصورا فى إطار الدرجة وليس النوع. ان شئت فقل ان ذلك لا يبرئ النظام ولكنه يبقيه فى نطاق الإدانة وان بدرجة أقل. كأن يظل الفعل مجرما ولكنه يصبح جناية صغرى بدلامن ان يبقى جناية كبرى.

لذلك فإننى أجد من المبالغة القول بأن الوضع بعد الثورة لم يختلف عنه قبلها، لأن الاختلاف قائم لا ريب، ليس فقط فى حجم الجريمة ونطاقها، ولكنه أشد وضوحا فى تعامل المجتمع مع التعذيب ومع الشرطة. حيث لا يستطيع أحد أن ينكر ان المجتمع الذى كسر جدار الخوف أصبح أكثر جرأة فى التصدى لمثل تلك الظواهر السلبية، ومن ثم أكثر إصرارا على فضحها وتصويبها وطى صفحتها. وكما ان الثورة اسقطت الفرعون وما عادت تسمح باستيلاد فرعون جديد، فإنها أيضا أغلقت الأبواب دون إمكانية العودة إلى الدولة البوليسية مرة أخرى، وقد دفعت الثمن مقدما من دماء شهدائها لكى تحسم المسألة وتقطع الطريق على احتمالات إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.

السؤال الآخر الذى يطرح نفسه فى هذا السياق هو: هل التعذيب سياسة دولة، أم سياسة وزارة، أم سلوك لعناصر الأجهزة الأمنية التى تربت أجيالها فى ظل الطوارئ وأطلقت يدها طوال ثلاثين عاما فى الاعتداء على حريات الناس وكراماتهم وأعراضهم؟

أجد صعوبة فى الإجابة عن السؤال، لأن التعذيب فى كل أحواله يظل جريمة تحاسب عليها السلطة كلها، من رئيس الدولة إلى أصغر ضابط أو أمين شرطة فى الأجهزة الأمنية. وحتى إذا كان رئيس الدولة لم يأمر بالتعذيب فإن أحدا لا يستطيع أن يدعى أنه لم يسمع به، ومن ثم فبوسعه أن يعلن بوضوح موقفا رافضا له، وان يدعو المؤسسات المعنية إلى التصدى للظاهرة بكل السبل، سواء تمثلت فى تعديلات القانون أو إعادة هيكلة أجهزة الشرطة، أو محاسبة المسئولين عن التعذيب. إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن، حيث لم نشهد موقفا سياسيا حازما ضد استمرار التعذيب، ولسنا على ثقة من ان هيكلة الشرطة حققت المراد منها رغم الجهود التى بذلت على ذلك الصعيد. كما ان الذين اتهموا بممارسة التعذيب برأت المحاكم أغلبيتهم الساحقة، حتى مجلس الشورى لم نلحظ منه اهتماما بالموضوع من جانبه، رغم أن عددا غير قليل من أعضائه مروا بالسجون والمعتقلات وذاقوا مرارتها، وأشك فى أنهم نسوا خبراتهم تلك خلال السنتين الأخيرتين.

ما سبق يجلعنى اتفق مع ما ذهبت إليه الوثائق التى سبقت الإشارة إليها، والتى حملت السلطة بالمسئولية عن استمرار ظاهرة التعذيب، استنادا إلى انها حتى إذا لم تأمر به فإنها لم تعمل على إيقافه ولم تعلن موقفا صريحا يدينه ويستنكره.

ما العمل إذن؟ توفر وثائق المنظمات الحقوقية إجابات عدة عن السؤال، حيث تضمنت مقترحات لتعديل بعض مواد قانون العقوبات (7 مواد على وجه التحديد) خصوصا تلك التى تعرف جريمة التعذيب، لأن النصوص الحالية تضيق من نطاق ذلك التعريف ولا تتفق مع الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب التى صدقت عليها مصر، وثمة مقترحات أخرى لتعديل القوانين المنظمة لاستعمال القوة والسلاح من قبل رجال الشرطة. كما تضمنت الوثائق مقترحات لإعادة بناء الشرطة على نحو يجعلها فى خدمة المجتمع حقا، ومقترحات أخرى حول ضمان استقلال النيابة العامة، والفصل بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق، بحيث تحال سلطة التحقيق لقضاة مختصين بها مع الاحتفاظ للنيابة بسلطة الاتهام فقط.

الخلاصة ان بين أيدينا ثروة من المقترحات التى تحاول إزالة تلك وصمة التعذيب من جبين مصر، وهى فى انتظار من يلتفت إليها ويستخلص منها علاج المشكلة، التى يعد السكوت عليها جريمة لا تختلف كثيرا عن جريمة الفاعلين. ناهيك عن ان الساكتين لا عذر لهم إذا طال صمتهم. وإذا فعلوا ذلك فإننا نعذر إذا ما وجهنا إليهم أصابع الاتهام أيضا، باعتبار أن السكوت يمكن أن يكون من علامات الرضا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق